ملخص المقال
حكمة الشافعي ظاهرة بيِّنة لكل من درس سيرته: فقد ألقى الله على لسانه الحقَّ، وحسن البيان، وروعة المعاني.
حكمة الشافعي ظاهرة بيِّنة لكل من درس سيرته: فقد ألقى الله على لسانه الحقَّ، وحسن البيان، وروعة المعاني.
أمثلة من حكمته في أقواله:
قال الربيع بن سُليمان، قال: سمعتُ الشافعي يقول: أَشَدُّ الأعمال ثلاثة: الجودُ من قِلَّة، والوَرعُ في خَلوة، وكَلمة الحَقّ عند من يُرجى ويُخاف، وقال الشافعي: من صدَق في أخوة أخيه قَبِلَ عِلَلَه، وسدّ خَلَلَه، وعفا عن زَلَلِه، وقال: أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثر الناس فضلًا من لا يرى فضله.
الحكمة في المناظرة واستنباط الدليل:
تقدم اسحق إلَى مَجْلِسِ الشَّافِعِيِّ فَسَأَلَهُ عَنْ كِرَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ عِنْدَنَا جَائِزٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: وَهَلْ ترك لنا عقيل من دار؟ فقال اسحق حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى ذَلِكَ وَعَطَاءٌ وَطَاوُوسٌ لَمْ يَكُونَا يَرَيَانِ ذَلِكَ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لِبَعْضِ مَنْ عَرَفَهُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ هَذَا اسحق بْنُ رَاهْوَيْهِ الْحَنْظَلِيُّ الْخُرَاسَانِيُّ فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيهم؟ قال اسحق هَكَذَا يَزْعُمُونَ قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا أَحْوَجَنِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُكَ فِي مَوْضِعِكَ فَكُنْتُ آمُرُ بِفِرَاكِ أُذُنَيْهِ. أَنَا أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأنت تقول قال طاووس والحسن وابراهيم هؤلاء يَرَوْنَ ذَلِكَ؟ وَهَلْ لِأَحَدٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ حُجَّةٌ؟ وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم} أَفَتُنْسَبُ الدِّيَارُ إلَى مَالِكِينَ أَوْ غَيْرِ مَالِكِينَ؟ فقال اسحق: إلَى مَالِكِينَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ قَوْلُ اللَّهِ أَصْدَقُ الْأَقَاوِيلِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَقَدْ اشْتَرَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَارَ الْحَجَّامِينَ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ لَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ... فسكت اسحق وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فَسَكَتَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ
أمثلة من حكمته في أشعاره:
يا واعِظَ الناسِ عَمّا أَنتَ فاعِلُهُ يا مَن يُعَدُّ عَلَيهِ العُمرُ بِالنَفَسِ
اِحفَظ لِشَيبِكَ مِن عَيبٍ يُدَنِّسُهُ إِنَّ البَياضَ قَليلُ الحَملِ لِلدَنَسِ
كَحامِلٍ لِثِيابِ الناسِ يَغسِلُها وَثَوبُهُ غارِقٌ في الرِجسِ وَالنَجَسِ
تَبغي النَجاةَ وَلَم تَسلُك طَريقَتَها إِنَّ السَفينَةَ لا تَجري عَلى اليَبَسِ
لَكِنَّ مَن رُزِقَ الحِجا حُرِمَ الغِنى ضِدّانِ مُفتَرِقانِ أَيَّ تَفَرُّقِ
وَأَحَقُّ خَلقِ اللَهِ بِالهَمِّ اِمرُؤٌ ذو هِمَّةٍ يُبْلَى بِرِزقٍ ضَيِّقِ
وَمِنَ الدَليلِ عَلى القَضاءِ وَحُكمِهِ بُؤسُ اللَبيبِ وَطيبُ عَيشِ الأَحمَقِ
إِنَّ الَّذي رُزِقَ اليَسارَ فَلَم يَنَل أَجراً وَلا حَمداً لِغَيرُ مُوَفَّقِ
وَالجَدُّ يُدني كُلَّ أَمرٍ شاسِعٍ وَالجَدُّ يَفتَحُ كُلَّ بابٍ مُغلَقِ
وَلَمّا قَسا قَلبي وَضاقَت مَذاهِبي جَعَلتُ الرَجا مِنّي لِعَفوِكَ سُلَّما
تَعاظَمَني ذَنبي فَلَمّا قَرَنتُهُ بِعَفوِكَ رَبّي كانَ عَفوُكَ أَعظَما
فَما زِلتَ ذا عَفوٍ عَنِ الذَنبِ لَم تَزَل تَجودُ وَتَعفو مِنَّةً وَتَكَرُّما
السِّرُّ وراء هذه الحكمة العظيمة:
أولًا: الإخلاص لله والرغبة الصادقة في ظهور الحقِّ، وعدم الانتصار للنفس:
قال الشافعي: مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ إلَّا وَدِدْتُ أَنْ يُوَفَّقَ وَيُسَدَّدَ وَيُعَانَ وَيَكُونَ عَلَيْهِ رِعَايَةٌ مِنْ اللَّهِ وَحِفْظٌ. وقال: «ما ناظرت أحدًا فأحببتُ أن يخطئ، وما في قلبي من علمٍ إلا وودت أن يتعلَّمه كل أحد ولا ينسب إليَّ». وقال: «ما كلَّمت أحداً قطّ إلا ولم أبال بَيَّنَ اللهُ الحقَّ على لساني أو لسانِه».
ثانيًا: وصفة شافعية للحصول على الحكمة:
قال الشافعي: «من أحب أن يفتح الله قلبه ويرزقه الحكمة فعليه بالخلوة، وقلة الأكل، وترك مخالطة السفهاء، وبغض أهل العلم الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب».
1- الخلوة: فيها نقاء التفكُّر دون مؤثِّرات خارجية، وهذا أنفع للوصول إلى الحقائق، ولذا قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46]، وكان الشافعي يصلي كثيرًا في خلوته، وخاصة قيام الليل، وقيام الليل يبدو أثره على لسان من يتكلم، ويبدو كذلك على جوارحه. قال الربيع بن سليمان: «كان الشافعي جزَّأ الليل ثلاثة أجزاء: الأول يَكْتب، والثاني يُصَلِّي، والثالث ينام». ويقول: «قد نمتُ في منزل الشافعي ليالي كثيرة فلم يكن ينام من الليل إلا أيسره».
2- قلة الأكل: مع الأكل الكثير يقل الدم في المخ، ويضعف التركيز، وتفتر الهمَّة، وليس مع كل ذلك حكمة.
3- ترك مخالطة السفهاء: السفاهة عدوى، وإذا أكثر المرء من مخالطة السفهاء تخلَّق بأخلاقهم، والشافعي كان لا يكتفي بترك مخالطة السفهاء، بل كان لا يجادلهم أصلًا:
يُخَاطِبُنِي السَّفِيهُ بِكُلِّ قُبْحٍ ... فَأَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ لَهُ مُجِيبَا
يَزِيدُ سَفَاهَةً فَأَزِيدُ حِلْمًا ... كَعُودٍ زَادَهُ الْإِحْرَاقُ طِيبَا
4- بغض أهل العلم الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب:
غياب الإنصاف يُضَيِّع الحقيقة، ويضمن استمرار الجدل البغيض، وسوء الأدب يجعل الانتصار للنفس مطلبًا، وهذا يذهب بالحكمة، الأدب كان عنوان الشافعي الرئيس، وكان شديد الحياء، ويروى في ذلك مواقف كثيرة:
«قال الربيع بن سليمان: أخذ رجل بركاب الشافعي فقال الشافعي: يا ربيع، أعطه الأربعة دنانير واعتذر لي منه». «يقول الربيع: كان الشافعي رضي الله عنه إذا سأله إنسان أن يصله بشيء يَحْمَارُّ وَجْهُهُ حياءً من السائل، ويبادر بإعطائه ما سأله. ولقد سأله إنسان يومًا وهو راكب شيئًا فتغيَّر لونه وقال: أين تكون حتى أبعث إليك بحاجتك؟ فلمَّا رجع إلى منزله بعث إليه بما سأله».
ثالثًا: الزهد في الدنيا، وفيما في أيدي الناس:
قال الشافعي: «من غلبت عليه شدَّة الشَّهوة لحبِّ الدنيا لزمته العُبُودِيَّة لأهلها» وقال: «طلبُ فُضول الدنيا عقوبةٌ عاقب الله بها أهل التوحيد»، ولذا قال أبو يعقوب البويطي: «قد رأيت الناس، والله ما رأيت أحدًا يشبه الشافعي ولا يقاربه في صنف من العلم، والله إن الشافعي كان عندي أورع من كل مَن رأيته يُنسب إلى الورع». والورع ترك الشبهات مخافة الوقوع في الحرام، والورع قرين الزهد؛ فالزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة.
نختم بكلمات رقيقة للشافعي من روائع حكمته: قال: من تعلَّم القرآنَ عظُمت قيمتُه، ومن نظر في الفقه نَبُل قدرُه، ومن كَتَب الحديثَ قَويَت حجتُه، ومن نظر في اللغة رقَّ طبعُه، ومن نظر في الحساب جَزُل رأيُه، ومن لم يَصُن نفسَه لم ينفعْهُ علمُه[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك